الواجب

الواجب

ترتبط كلمة الواجب في معناها الشائع بالإكراه أو الخضوع لضغط قوة خارجية (عائلة، مدرسة، دين، دولة)، وهذا الانطباع يثير على الأقل دور المجتمع في ترسيخ مفهوم الواجب منذ الطفولة. لكن هل الواجب يتطلب الإكراه لممارسته؟ وكيف يتصور الفلاسفة مصدر الوعي الأخلاقي الذي يؤسس الواجب’ وما علاقة الواجب بالمجتمع؟

يعرف كانط الواجب كما يلي: "الواجب قوة تدفع إلى الاحترام"
ويميز هيوم بين نوعين من الواجب هما:
1. الواجب الذي أصله غريزة طبيعية أو ميل ميل مباشر لا تحكمه مصلحة عامة أو خاصة (حب الأطفال، شكر المحسنين، العطف على المعوزين...)
2. الواجب الذي أصله الإلزام وحده (كل ما يدخل في إطار ضرورات المجتمع، وهي واجبات لا تقوم للمجتمع قائمة بدونها).

المحور الأول: الواجب والإكراه

كانط: أصل الواجب هو العقل
خلافا للمذاهب التي ترجع الواجب والقيم الأخلاقية عموما إلى بواعث خارجية، مثل تحقيق فضيلة من الفضائل لفائدة معنوية أو مادية أو بغرض المتعة أو إرضاء إله أو شخص أو الخضوع لقانون... وهو ما يجعل الأخلاق سجينة البواعث الخارجية، ويحولها إلى قيم ذاتية أو مختلفة من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر يرى كانط أن أساس الأخلاق هو أن تكون كونية ومطلقة.
لا يقبل بنسبية واجتماعية ونفعية القيم الأخلاقية، مثلا الواجب الأخلاقي. ينطلق من أن الإنسان كائن عاقل، وأنه لذلك يصارع الأهواء والغرائز: وفي خضم هذا الصراع ينبثق الواجب كمبدأ عقلي يلتزم الشخص بأوامره حتى وإن تعارضت مع ميولاته.
- إذن: مصدر الواجب هو العقل / وغاية الواجب هي احترام القانون أو القاعدة الأخلاقية / ومبدأ الواجب هو الإرادة الخيرة أو الحسنة.
- الإرادة الخيرة أو الحسنة: هي ضرورية لأن الذي ليست له الإرادة الخيرة لا قيمة لأي قيمة أخلاقية تمتع بها (مثل الشجاعة بالنسبة للمجرم... وهو نموذج من يفتقد الإرادة الخيرة).
- بالنسبة لمصدر الواجب: فهو الشخص العاقل الذي هو غاية في ذاته. ويتميز الواجب في مصدره بالاستقلالية (القدرة على الخضوع للقانون الذي تم سنه) والضرورة (وحده الإنسان قادر على التصرف وفق احترام القانون الأخلاقي).
- بالنسبة لمميزاته: فهو قبلي (أي مستقل عن التجربة ولا علاقة له بها) وقطعي (بدون شرط أو مناقشة) وكوني (خاص بالإنسانية في إطلاقيتها).
- بالنسبة لموضوعه: الذات والغير كأشخاص.
- بالنسبة لمحتواه: غير محدد لأن الفعل الأخلاقي ليس مشروطا بهدف ما
- بالنسبة لشكله أو صورته: الكونية والشمولية.
ويعرف الواجب الأخلاقي عبر الصيغتين التاليتين:
-"تصرف فقط وفق القاعدة الأخلاقية التي تجعلك تريد
- "تصرف وفق القاعدة الأخلاقية التي يمكن في نفس الوقت أن تتحول إلى قانون كوني"
-"تصرف وفق القواعد الأخلاقية التي يمكنها في نفس الوقت أن تتخذ نفسها موضوعا باعتبارها قوانين كونية للطبيعة"
نقد موقف كانط:
- لا يتفق الجميع مع مفهوم العقل عند كانط، فهو ليس كونيا وإنما منتوج تاريخي، لذلك لا يمكن القول أنه مصدر للواجب مادام العقل نفسه من إنتاج المجتمع: فالعقل ليس كونيا و‘نما نسبي وخاص،رغم بعض القواعد المنطقية المشتركة والتي لا يتفق الكل خاصة الأتروبولوجيون على أنها عامة ما دام مبدأ عدم التناقض ليس كونيا على سبيل المثال، فالعقل هو منتوج تاريخي ليس من منظور التجريبيين (لوك وهيوم...) ولكن من منظور التطور التارخي نفيه، فمضامين العقل ومكوناته الجزئية تختلف باختلاف العصور والمجتمعات (وهذا ما يفسر وجود عبارات مثل العقل العربي الإسلامي، العقل الغربي...)

موقف غويو: بالنسبة لغويو، ليس الواجب سوى قدرة طبيعية يملكها كل فرد، وتجعله يميل إلى الفعل الأخلاقي بدون إكراه أو إلزام. إذن: الواجب أساسه هو الميولات الطبيعية كقدرات طبيعية توجه فعل الإنسان.

تطبيقات:
- إريك فايل
- كانط
- غويو

المحور الثاني: الوعي الأخلاقي

يجب بداية التمييز بين الوعي في مفهومه العام، والوعي الأخلاقي كمجال متميز.
فالوعي بصفة عامة هو "الإحساس المباشر بوجودنا وبوجود العالم" أي معرفة مباشر بأفعالنا وبالعالم، نوع من الحدس مادام الحدس في جوهره هو معرفة بدون واسطة.
أما الوعي الأخلاقي فهو يشبه قاضيا بداخلنا يأمرنا بفعل ما يجب علينا فعله وينهانا عن فعل ما يجب علينا الامتناع عن فعله. وبتعبير آخر هو قدرة الفكر الإنساني على إصدار أحكام معيارية (أي تميز بين الخير والشر) على أفعاله، وهو أساس التمييز بين الخير والشر.
فما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟
بالنسبة لروسو: مصدر الوعي الأخلاقي هو الفطرة، أي أن الإنسان يتمتع فطريا منذ حالته الطبيعية بإحساس فطري يدفعه نحو الخير وهو ما يفسر أطروحة روسو بأن الإنسان خير بطبعه إلا أن المجتمع هو الذي يفسده فيما بعد.
بالنسبة لكانط: مصدر الوعي الأخلاقي ( والواجب الأخلاقي) هو العقل الذي يعتبر أساس ضمان كونية القاعدة الأخلاقية وعدم ارتباطها بالمصلحة أو بالزمان.
بالنسبة لنيتشه: أساس الوعي الأخلاقي هو الصراع بين الأسياد والعبيد، والعلاقات التجارية الأولي التي كان يقع ضحيتها العديد من المتعاملين كمينين لدائنين: مما يترتب عليه سقوطهم تحت رحمتهم، بل إن من يموت منهم في بعض الحضارات تصبح جثته ملكا للدائن.
بالنسبة لفرويد: أساس الوعي الأخلاقي هو العوامل النفسية اللاشعورية التي تقوم على الممنوعات التي تصبح مقموعة ومكبوتة.

تطبيقات:
- روسو
- نيتشه

المحور الثالث: الواجب والمجتمع

ترى التصورات الواقعية والاجتماعية والتاريخية أن المجتمع هو أساس تشكل مفهوم "الواجب" وأن كل تفكير في أسباب "ميتافيزيقية" (مثل موقف كانط) أو طبيعية (روسو وغويو) هو تفكير مجانب للصواب.
إميل دوركايم: عالم اجتماع فرنسي من الرواد الكبار لهذا العلم يعرف الواقعة الاجتماعية بالإكراه: أي كونها مفروضة على الفرد، لأن هذا الأخير يتلقى آليات ومعتقدات وأفكار وعادات المجتمع الذي يوجد فيه: لذلك يتغير مضمون الواجب الأخلاق حسب الدين والعادات والتاريخ (القتل لأسباب دينية مسألة لا أخلاقية بالنسبة للأغلبية الساحقة من الناس، لكنه واجب ديني وأخلاقي مقدس بالنسبة لآخرين، والعري تعبير عن الحرية والجمال والارتقاء من الحيوانية إلى مرحلة إستيتقية، لكنه دعوة للفجور بالنسبة لآخرين..
برغسون: لا يمكن للإنسان أن يغفل وجود البشر الآخرين الذين يشكلون مجتمعات مختلفة عن مجتمعه، إضافة إلى ذلك فإن ثقافته وحضارته ليست معزولة تماما عن ثقافة وحضارة المجتمعات الأخرى، هناك روابط إنسانية كونية هي التي تشكل قاعدة التضامن الكوني: فإلى جانب الواجبات الخاصة بالمجتمع هناك واجبات تجاه الإنسان كإنسان، وهذا المطلب واضح جدا اليوم في عصر العولمة حيث نعيش مآسي أو أفراح أي إنسان في أي بقعة صغيرة من العالم: وهذا يتطلب واجبا أو مسؤولية أو التزاما تجاه بني الإنسان في كل مكان وبدون أدنى تمييز.
فريدريك أنجلز: ليست هناك أخلاقا كونية أو إنسانية أو عامة، فهذه عبارات تتضمن مغالطات أيديولوجية مقصودة: ما يوجد منذ القديم هو أخلاقا طبقية، وهكذا فالواجب ينهل مضمونه من الطبقة الاجتماعية التي تفرضه باعتباره يعبر عن منظورها الأخلاقي الذي يخدم مصالحها الخاصة: الأخلاق والواجب الأخلاقي... هي أمور طبقية.
تطبيقات:
- دوركايم
-برغسون- أنجلز